في موسم النوايا الحسنة لهذه السنة، تذكّرنا منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة (الفاو) بأنه لن يتسنى لجميع البشر أن يأكلوا جيداً في أيام موسم الأعياد هذا· ولذا فإن تقرير الفاو الخاص بالجوع في العالم يقدم مادة للقراءة تصيب المرء بعسر الهضم·
هناك أكثر من 850 مليون إنسان في شتى أنحاء المعمورة سيكونون في عداد الجائعين طوال موسم الأعياد، وقد ورد حرفياً في التقرير المذكور آنفاً (أن المشكلة،بلا مواربة، لا تتعلق بنقص الغذاء بقدر تعلقها بنقص الإرادة السياسية)· لكن (الإرادة السياسية) مصطلح غائم غامض·
ليس هناك نقص في الإرادة السياسية عندما يتعلق الأمر بالزراعة، سواءٌ أكان ذلك في الولايات المتحدة أم في أي مكان آخر· فالشركات الزراعية الكبرى دأبت وتدأب على شراء الإرادة السياسية في واشنطن طوال عقود من السنين· ومن المعلوم أن الجزء الأعظم من قيمة مشروع قانون المزارع لعام 2002، والذي بلغت قيمة مخصصاته 180 مليار دولار، إنما يشكل علامة مميزة تصب في مصلحة الشركات الكبرى وأصحاب المزارع الأثرياء، ويأتي ذلك ليكون تحدياً صارخاً للمنطق الاقتصادي والفطرة السليمة·
وكنتيجة مباشرة لذلك، وقعت المزارع العائلية في هاوية الإفلاس، وجرى تخريب المجتمعات الزراعية واندفع الفقر ليغزو المناطق الزراعية الريفية في الولايات المتحدة·
وقد أعلنت وزارة الزراعة الأميركية في شهر نوفمبر الماضي أن 34.3 مليون مواطن أميركي عانوا من الجوع في عام 2002 المنصرم، أي بزيادة قدرها 1.3 مليون جائع فوق عدد من جاعوا في العام الذي قبله 2001· أما نسبة الفقر في الريف الأميركي فهي أعلى بمقدار الثلث من نسبة الفقر في المدن، وهي ما زالت في تصاعد مستمر منذ عام 2001· ويتزامن كل هذا الجوع والفقر في أميركا مع وفرة في الغذاء والمساعدات الحكومية المقدمة لدعم الشركات الزراعية ودفعها إلى العقد القادم·
وعندما تتحدث منظمة (الفاو) عن الإرادة السياسية، فإنها تشير إلى الالتزام الاجتماعي بضمان قدرة أشد الناس فقراً في المجتمع على أكل ما يكفيهم من الغذاء· لكن ذلك التزام تناقص وتآكل، وأدى إلى إلحاق أكبر الضرر والأذى بالمجتمعات الريفية في المقام الأول· ولا يحدث هذا في أميركا فقط، بل في كل أنحاء العالم· ففي كل بلد من بلدان العالم، يكون أفقر الناس هم أولئك الذين يعيشون ويعملون في المجتمعات الزراعية· ولذلك فإن السياسة التي تؤثر في الزراعة إنما هي سياسة تؤثر بحكم الضرورة في الفقر·
فأي نوع من السياسة هذا الذي اخترناه؟ لقد تم جرّ العالم كله إلى اتباع نموذج تصديري في الزراعة- وهو نظام صناعي تتم فيه زراعة وإنتاج المحاصيل بالآلات والمواد الكيميائية، دون اعتبار ولا احترام لصحة التربة ولا لصحة المزارعين، وكذلك دون اعتبار ولا احترام للمجتمعات الريفية التي تعيلهم وتقدم لهم أسباب العيش· ولأن السياسة الزراعية الصناعية التي تتبعها الولايات المتحدة باتت مفروضة على البلدان النامية من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، انتشرت علل وأمراض ريف أميركا إلى جميع أنحاء العالم·
إن البلدان التي شهدت أسوأ وأضخم زيادات في أعداد الجائعين بين سكانها، كالهند ودول أميركا الوسطى والشرق الأدنى، هي البلدان التي تحوّلت-في صرامة تفوقت بها هنا على غيرها من البلدان- إلى الزراعة التصديرية·
وقد عرضت شركات التصدير الزراعي حلاً لمشكلة الجوع المتزايد، وهو الحل الذي أتى في هيئة المحاصيل المعدلة وراثياً، وأثار في العالم كله- وفي أوروبا على وجه الخصوص- عاصفة من الجدل الحاد· وقد دخل (لورد ماي) رئيس (الجمعية الملكية) (أي الأكاديمية البريطانية للعلوم) في الآونة الأخيرة إلى قلب الجدل الدائر، وقال: (إن المسألة الأكثر إلحاحاً والناشئة من(تجارب المحاصيل المعدلة وراثياً) لا تتعلق بما إذا كانت تلك المحاصيل أفضل أو أسوأ على البيئة من المحاصيل التقليدية، بل إنها متعلقة بنموذج الزراعة العصرية الذي نريد)·
إن هذه المسألة تنطبق بالقدر ذاته على الاندفاع نحو الزراعة الصناعية بكل أشكالها، والذي يستمد قوته من اتفاقيات التجارة العالمية ويتلقى التحريض من المساعدات الحكومية الزراعية الهائلة التي تقدمها أغنى أمم الأرض·
إن السياسة الزراعية هي السياسة الغذائية وبالتالي هي سياسة الفقر· وفي الوقت الراهن، تتخذ الحكومات تلك القرارات باسمنا نحن البشر، لكنها قرارات من النادر أن تكون في مصلحتنا· وإذا تناولنا مشكلة الجوع والفقر العالميين على محمل الجد، فإننا نحتاج إلى أخذ سياستنا الزراعية والريفية على محمل الجد أيضاً·
وتماما مثلما تشير الأدلة إلى إخفاق النموذج الزراعي التصديري، فإنها تشير أيضاً إلى نجاح النماذج البديلة التي تطعم الجائعين· ولذا فإن كل ما نحتاج إليه ليس سوى إرادة سياسية تقوم بتنفيذها·
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة (لوس أنجلوس تايمز وواش