في نوبة من نوبات الواقعية صوت مجلس الشيوخ الأميركي بأغلبية 75 صوتا مقابل 23 على قرار غير ملزم يعترف بأن العراق قد تفكك وغدا من الصعب تجميعه مرة أخرى. وهذا القرار الذي تمت رعايته من قبل "جوزيف بايدن" المرشح "الديمقراطي" للرئاسة و"سام براون باك" عضو الكونجرس "الجمهوري" عن ولاية"كانساس" يدعم بدوره خطة لإقامة كونفدرالية فضفاضة مكونة من ثلاث مناطق في العراق: منطقة كردية في الشمال، ومنطقة شيعية في الجنوب، ومنطقة سُنية محصورة بين المنطقتين في الوسط. ولا تتمتع الحكومة المركزية في بغداد بموجب هذا القرار سوى بصلاحيات محدودة بخلاف صلاحيتها الرئيسية المتمثلة في ضمان التوزيع العادل لعائدات النفط. وعلى الرغم من أن هذا القرار قد حرك ردود فعل قوية في العراق بل ومن إدارة بوش ذاتها، فإنه في الحقيقة قد دعا إلى الشيء الذي ينص عليه الدستور العراقي كما أنه يأتي تعبيراً عن واقع تجسد على الأرض وغدا من الصعب تغييره. علاوة على ذلك نجد أن الدستور العراقي يعترف بالمنطقة الكردية في الشمال باعتبارها منطقة فيدرالية قائمة بالفعل، وأن المناطق الأخرى قد تنحو إلى خيار تكوين مناطقها الخاصة. ويُسمح للمناطق العراقية وفقاً لذلك القرار بإنشاء برلماناتها الخاصة، وبأن يكون لكل منها رئيس مستقل، بل ويجوز لها تكوين جيشها الخاص. الجيش الوطني والسياسة الخارجية سيكونان ضمن مسؤولية الحكومة الفيدرالية حصرياً،إلا أن القانون المناطقي ستكون له الأولوية على القانون الوطني في كافة الأمور المتبقية تقريباً، لدرجة أن الحكومة الاتحادية لن تكون لها حتى صلاحية فرض الضرائب. والحقيقة إن محدودية صلاحيات الدستور العراقي تعد انعكاساً لدولة لا تتمتع بشخصية مشتركة. فالشيعة يرون أن أغلبيتهم تعطيهم الحق في الحكم، كما أن أغلبية عريضة منهم تدعم الأحزاب الدينية التي ستُعرف العراق. والسُنة العرب من ناحيتهم لا يمكن أن يقبلوا بأن يتم تعريفهم بواسطة فصيل مذهبي منافس، أو أن يتم حكمهم بواسطة أحزاب مصطفة مع إيران. أما الأكراد فإن رؤيتهم للعراق تستند الى أنها دولة لا تشملهم. وغياب الهوية المشتركة، هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى فشل إدارة بوش في بناء مؤسسات وطنية قادرة على العمل في العراق. وعلى الرغم من أن المدربين الأميركيين، يستطيعون جعل قوات الأمن ذات الأغلبية الشيعية أكثر فعالية، إلا أنهم لا يستطيعون تحويل جنودها إلى ضامنين محايدين للأمن يمكن للسنة أن يثقوا بهم. أما الأكراد فإنهم يحظرون تواجد الجيش الوطني وقوات الشرطة الوطنية في منطقتهم ويحتفظون بقواتهم الخاصة "البشمركة" التي يماثل تعدادها تعداد قوات الجيش النظامي وتفوقه من حيث المقدرة. وفي تعبير عن الانقسامات العنيفة السائدة في العراق شجب رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي وزعماء الأحزاب السُنية الرئيسية تصويت مجلس الشيوخ الأميركي، واعتبروه مؤامرة لتقسيم العراق، في حين تبنى الزعماء الأكراد وحزب شيعي رئيس القرار لأنهم يأملون أن يؤدي في النهاية إلى تقسيم العراق. والسيناتور "بايدن" الذي يُرجح أن يكون أكثر أعضاء الكونجرس إطلاعاً على حقائق الأوضاع في العراق، يصر على أن الفيدرالية الفضفاضة، وليس التقسيم هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه. و"بايدن" يشبه العراق بالبوسنة حيث أدت اتفاقية "دايتون" إلى الحفاظ على البلد قائماً، من خلال نقل معظم الوظائف إلى كيانات محددة على أساس عرقي. وهو على حق في ذلك خصوصاً إذا ما عرفنا أن الزعماء الأكراد يريدون أن يظلوا جزءاً من العراق في الوقت الحالي، لأن كردستان تتوافر فيها كافة سمات الدولة باستثناء الاعتراف الدولي. على مدى أطول قد تكون المشابهة بين العراق وبين يوغسلافيا السابقة بل والاتحاد السوفييتي أكثر ملاءمة من المشابهة مع البوسنة. فالديمقراطية دمرت هذين البلدين لأنه- وكما هو الحال الآن في العراق- لم تكن هناك أبداً هوية وطنية مشتركة، كما أن جزءاً كبيراً من السكان لم يكن يريد أن يظل في إطار دولة واحدة. لذلك يجب أن نكف عن الجدل حول ما إذا كنا نريد" تقسيماً" أو "فيدرالية" في العراق، وأن نبدأ بدلاً من ذلك في التفكير في الكيفية التي يمكننا بها تخفيف الآثار التي ستترتب على التفكك الحتمي لذلك البلد. وستكون هناك حاجة في هذا السياق بالطبع إلى عقد استفتاءات، كما يستلزم الدستور العراقي، من أجل تعيين الحدود النهائية للمناطق الثلاث. وسيستلزم الأمر أيضاً التوصل إلى صفقة بشأن تقاسم أموال النفط ترضي الشيعة والأكراد وتضمن للسُنة في نفس الوقت تدفقاً ثابتاً من العائدات، إلى أن يتم تطوير موارد النفط غير المستغلة حتى الآن والواقعة في مناطقهم. كما سيستلزم الأمر كذلك التوصل إلى صيغة لتقسيم بغداد. وعلى المستوى الإقليمي فسيتحتم إقناع جيران العراق بالقبول بجغرافيا سياسية جديدة. والأنباء الطيبة في هذا الصدد، هي أن التقسيم سيكون له أثر سياسي يحد من النفوذ الإيراني سواء في جنوب العراق أو في بغداد. أما تركيا، فعلى الرغم من التطورات الأخيرة على الحدود مع إقليم كردستان، فإنها تبنت حتى الآن موقفاً براجماتياً نحو ظهور كيان كردي مستقل، وهو ما يتبين جزئياً من خلال دعمها للشركات التركية التي تمثل استثماراتها 80 في المئة من الاستثمارات الخارجية في الإقليم. دعونا إذن نواجه حقيقة المسألة وجها لوجه، وهي أن التقسيم أفضل من حرب أهلية بين الشيعة والسنة، وأن هناك خيارات محدودة متاحة في الواقع تغني عن خيار التقسيم، وأن العراق لا يمكن إعادة تجميعه مرة ثانية أبداً في صورة دولة موحدة، وأننا كلما عجلنا بمواجهة هذه الحقيقة كلما كان ذلك أفضل.