------------ ماشا ليبمان رئيسة تحرير دورية "برو إي كونترا جورنال" الصادرة عن "مركز كارنيجي في موسكو"، وكاتبة في "واشنطن بوست" -------------- تؤشر زيادة التحرش الروسي بالمجلس الثقافي البريطاني خلال الأيام الأخيرة إلى تدهور جديد في علاقات روسيا خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة مع الغرب، ومزيد من الانزلاق نحو الانعزالية التي تذكر بالعهد السوفييتي. فقد أُرغمت الأسبوع الماضي مكاتب المجلس الثقافي البريطاني، الذي يروج للغة والثقافة البريطانيتين في العالم، على الإغلاق في سان بطرسبورغ وييكاتيرينبورغ. والواقع أن الهيئة نجحت في مقاومة ضغوط سابقة، ولكنها استسلمت هذه المرة بعد أن اتصل "جهاز الأمن الفيدرالي" الروسي "إف. إس. بي."، أي "كي. جي. بي." سابقاً، بالموظفين الروس في المجلس، وحذرهم من أنهم قد يصبحون ضحايا "استفزازات"، مثلما يقول الروس. ولكن البريطانيين يقولون إن العملاء أرادوا تهديد الموظفين ودفعهم إلى الاستقالة، وهذا كل ما هنالك. أما السلطات الروسية فلا تخفي الجذور السياسية للنزاع؛ حيث ربطه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بطرد أربعة دبلوماسيين روس من بريطانيا الصيف المنصرم؛ والذي جاء كرد بريطاني على رفض موسكو تسليمها أندري لوجوفوي، وهو ضابط سابق في "كي جي بي" يتهمه ممثلو الادعاء العام البريطاني بالضلوع في مقتل ألكسندر ليتفينينكو في 2006. إضافة إلى ذلك، يتم التلميح بشكل غير رسمي في روسيا إلى أن المجلس البريطاني جبهة أخرى للمخابرات البريطانية. والواقع أن العلاقات بين روسيا وبريطانيا تعرف توتراً منذ أن تم تسميم ليتفينينكو، ضابط الأمن السابق الذي هجر الجيش وهاجر إلى بريطانيا، بمادة مشعة في لندن؛ حيث تستاء بريطانيا من رفض موسكو تسليمها لوجوفوي. على أن الإهانة الأكبر للعدالة البريطانية هي تلك التي حدثت الشهر الماضي عندما أصبح لوجوفوي نفسه عضواً في البرلمان الروسي. إذ يرى البريطانيون أنه نظراً لسيطرة الكرملين التامة على الحياة السياسية، فإن لوجوفوي ما كان لينتخَب لولا موافقة من أعلى. غير أن العلاقات بين البلدين كانت سيئة أصلاً قبل هذا التجاذب. إذ طالما شعرت روسيا بالإحباط إزاء رفض بريطانيا تسليمها رجل الأعمال بوريس بيريزوفسكي، والانفصالي الشيشاني أحمد زكاييف، وكلاهما "مجرمان" في نظر موسكو. فقد رفضت المحاكم البريطانية تسليمهما لروسيا على اعتبار أن التهم تحركها دوافع سياسية. وفوق ذلك تم منح الرجلين اللجوء السياسي. وخلال الأشهر الأخيرة، بات يستشف من خطابات المسؤولين الروس أن بريطانيا فاقت أميركا بمضايقتها لروسيا. فقد كان السفير البريطاني هدفاً لتحرش المنظمة الشبابية "ناشي" الموالية للكرملين مرات متكررة. والعام الماضي، وصف شريط وثائقي عرضه التلفزيون الروسي خلال أوقات ذروة المشاهدة بريطانيا بأنها بلد مُعادٍ يسعى لإيذاء روسيا (وعلى ما يبدو، فقد تم إغفال تحالف الحرب العالمية الثانية). وقبل ذلك، كان شريط "وثائقي" آخر قد اتهم الدبلوماسيين البريطانيين بالتجسس، وربط بينهم وبين منظمات حقوق الإنسان الروسية التي تتلقى منحاً من قبل الحكومة البريطانية. وليس سراً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتوق إلى وضع روسيا من جديد على الساحة الدولية بعد ما يعتبره العديد من الروس هنا فترة إذلال خلال السنوات الأولى التي أعقبت العهد الشيوعي. إلا أنه إذا كانت المصالح القومية هي التي توجه خطوات السياسة الخارجية للكرملين أحياناً، فإن التدابير والخطابات الصارمة تحركها في حالات كثيرة الرغبةُ في ألا ينظَر إلى روسيا باعتبارها من المُسلّمات والدول المضمونة أو سهلة الجانب. وهذا التكتيك قصير المدى هو الذي يوجد في صلب التوتر مع جورجيا وبولندا وإستونيا اليوم. والحال أن النزاعات من هذا القبيل تتسبب في الإضرار بصورة روسيا، ناهيك عن أنه يصعب الحديث عن أية مزايا لهذا الابتعاد الذاتي عن الغرب. قد يكون هدف سياسة بوتين الخارجية استثمار الانقسامات بين البلدان الغربية. وهكذا، فقد فسر الكثيرون خطابه الناري في ميونيخ في فبراير الماضي باعتباره محاولة لدق إسفين بين أوروبا والولايات المتحدة. ولكن يبدو أن ثمة انسجاماً أكبر اليوم بين البلدان الغربية بخصوص روسيا. فبعد الهجمات الأخيرة، أعلنت رئاسة الاتحاد الأوروبي أن "الاتحاد الأوروبي يأسف كثيراً... للتحرش بموظفي المجلس الثقافي البريطاني، وللإجراءات الإدارية وغيرها التي أعلنت عنها السلطات الروسية". كما قدمت فرنسا دعمها لبريطانيا. وعليه، فإنه يمكن القول إن مهاجمة بريطانيا يمكن أن تكون لها عواقب خطيرة بالنسبة لروسيا، وطبعاً أكثر خطراً من تلك التي قد تنتج عن تهديد جورجيا. ولنتأمل أيضاً البعد الداخلي لهذا الخلاف. فالتأكيدات القوية لمكانة روسيا في الساحة العالمية تتناسب كثيراً مع السياسة الانعزالية التي كانت سائدة زمن الاتحاد السوفييتي، والتي تولد الارتياب في القيم والتأثير الغربيين. فالكرملين قلقٌ بشكل متزايد من المنظمات المستقلة ذاتياً، ولاسيما تلك التي تتلقى دعماً مالياً غربياً. فبعد إشارة بوتين الشهيرة إلى هذه المنظمات في 2004 -"إنها لا تعض اليد التي تطعمها"- تعرضت المنظمات غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان التي تتلقى منحاً من الخارج للطعن في مصداقيتها ووطنيتها. بل إن التحرش بهذه المنظمات تزايد. لقد كانت الدعاية المعادية للغرب في العهد السوفييتي وسيلة من وسائل الدولة الشمولية، إضافة إلى إغلاق الحدود والإيديولوجية الصارمة التي تهدف إلى القضاء على الرأسمالية. أما في روسيا الحالية، البلد الذي له تجارة حرة ويتمتع مواطنوه بحرية التنقل، وحيث تلفزيون "الكيبل" والإنترنت غير مقيدين، فإن سياسات من هذا القبيل تبدو غير معقولة وغير مناسبة لزمنها. إن علاقات روسيا التجارية مع البلدان الغربية شهدت اليوم توسعاً وتطوراً كبيرين. والعلاقات مع بريطانيا بصفة خاصة، تتجاوز مجرد الاستثمارات الاقتصادية؛ فقد أصبحت لندن الوجهة المفضلة للروس الأغنياء من أجل الإقامة والتعليم عالي الجودة وغيرهما. غير أن بريطانيا علقت العام الماضي المحادثات حول تسهيل عملية الحصول على التأشيرة؛ بل إن دخول الروس لبريطانيا قد يخضع لمزيد من القيود. لقد وصف رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون الهجمات بـ"غير المقبولة تماماً"، مشيراً إلى أن البلدين الوحيدين اللذين يواجه فيهما المجلس الثقافي البريطاني مشاكل كبيرة هما بورما وإيران. إلا أنه على ما يبدو، فإن زعماء الكرملين يعتقدون أن جعل العالم يحسب ألف حساب لروسيا تطلعٌ يستحق الضرر الذي تلحقه مثل هذه الزمرة بصورة البلد. ـــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"