في هذه الأيام هناك ميلٌ شديد عند بعض الباحثين للاعتقاد بأن حقوق الإنسان المعروفة السابقة قد أضيف لها حقٌ جديد، ألا وهو حق حصوله على الخبر وإتاحة الفرصة أمامه للاطلاع على ما يجري حوله ومن ثم تكوين انطباع شخصي تحدده اتجاهاته النفسية والاجتماعية والسياسية. وأحداث مصر الأخيرة هي خير مثال، فالفرد له أن يطلع على الأخبار ومجريات الأحداث وصناعها، هذا هو الهدف الأساسي لوسائل الإعلام وخاصةً المتلفزة منها، ويأتي بعد هذا إعطاء التحليل المتزن والعقلاني حول الوقائع التي تحدث على الأرض ومسببات ذلك والنتائج المتوقعة. ولكن غير المفهوم هو سقوط الإعلام المتلفز الفضائي العربي في مصيدة الرغبات الإعلامية في تصيُّد غرائب الأخبار واللهاث وراء الإثارة ليس إلا، هذا إن كانت هناك مصيدة فعلية، ولكن إن حدث هذا مع سبق الإصرار والترصد ولتحقيق مآرب بعيدة عن أهداف الإعلام الكلي، مثل أن تصور السرقة بأنها حدث لابد منه في الثورات، وانتشار الجريمة المنظمة أثناء الفوضى السياسية يمكن أن نعطيه مسمى ضريبة الكفاح، وسلب المتاجر والبنوك والمستشفيات ونهبها وترويع السكان والأهالي نطلق على كل هذه الفوضى أنها من فعل الذي تهتز كراسيه أو من هو في طريقه للسقوط كما يرد في آراء الوسيلة الإعلامية وبعض ضيوفها، مبتعدين عن تحميل جميع الأطراف مسؤولية توابع الأحداث وليس طرفاً واحداً... وهو الأمر المنطقي. إن قامت هذه الوسيلة الإعلامية المرئية، أو تلك، بهذه الانتهازية الإعلامية فإنها تتخلى عن الحياد النسبي والمهنية الإعلامية، التي يظن كثيرون أن على وسائل الإعلام أن تتحلى بها قدر الإمكان، وخاصةً أن الأحداث لا تزال طرية وفي طريقها لتبلور واقع جديد لا يُعرف حجمه وخواصه. لنعطِ أمثلة هنا: عندما تتقاطر الجموع نحو ميدان معين معبرةً عن رأي سياسي فهذا هو الخبر، شعارات المظاهرة، مطالبها، انضباطها أو عدمه، رموزها، حجمها، ردة فعل الجانب الأمني تجاهها... إلخ. ولكن أن ينبري المذيع أو المذيعة ليتحول إلى متظاهر مع المتظاهرين يرفع الشعارات بصوت مرتفع وأعلى من المحتشدين فهو الأمر الغريب على "ألف باء" الإعلام وأخلاق حرفيته؛ لقد سمعت مثلاً خطاب محمد البرادعي في المتجمهرين بميدان التحرير، فإذا نبرته هادئة ومطالبه محددة، أما بعد الخطاب وبعد أن جاء دور مذيع الفترة لتلخيص المضمون، فإننا رأينا العجب، لقد انبرى المذيع المتجهم دائماً لتحليل الخطاب الهادئ بصوت مجلجل أين منه صوت أي شاب توافق وجوده في تلك الساعة بميدان التحرير القاهري! أتذكر وللمصادفة أن مذيعة في نفس القناة الفضائية كانت تنقل مشهد انهيار تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام في أحد ميادين بغداد المشهورة سنة 2003، كان الحدث مجلجلاً وله تبعات على كل المنطقة، فإذا هي على استحياء تنقل هذا الحدث، صوتها متهدج وتكاد تبكي، وتصادف أيضاً أن تكون نفس هذه المذيعة في قلب الحدث الإعلامي يوم 28 يناير عام 2011، حيث تزايدت أعداد المتظاهرين في القاهرة، فإذا بها تذكرنا بطيب الذكر الأستاذ أحمد سعيد مسؤول الدعاية والإعلام في أيام الرئيس الراحل عبدالناصر، متخلية عن المهنية الإعلامية والحياد الذي تفرضه ساعة الحدث، ومتخلية عن صوتها الخفيض المعهود أيام أوائل شهر أبريل عام 2003! إن أكثر مذيعي ومشرفي بعض محطاتنا العربية المشهورة هم من خريجي إذاعة تليفزيون B.B.C البريطانية أو ممن قد عمل في صوت أميركا وإذاعة برلين أو مونتي كارلو، كلهم مهنيون إعلاميون محترفون يقدمون ويعدون نشرات أخبارهم وبرامجهم، وكانوا ملتزمين على رغم مشاربهم العقائدية والسياسية والفكرية بنهج تلك المؤسسات الإعلامية العالمية التي لا تقبل المساس بمهنيتها وحيادها النسبي، وبهذا لم يكن هؤلاء العرب المسيسون قادرين على الجهر بآرائهم الشخصية بل يقدمون الخبر كما هو ويستمعون للآراء (المختلفة) مع إعطاء فسح مُتساوية لجميع تلك الاتجاهات الفكرية المتباينة، حتى والحرب الباردة على أشدها، والعرب مثل العالم الآخر المنقسم بين معسكرين. ماذا حدث لتلك الحرية الإعلامية الملتزمة الممثلة بالشخوص بعد أن بدأت جحافل العاملين في المؤسسات الغربية الإعلامية في الإشراف على محطاتنا الفضائية العربية؟ انقلب الأمر تماماً، فالرأي الذي يعاكس رأي القناة سرعان ما يقمع وتقفل الخطوط الهاتفية في وجه المشارك برأيه، الذي لابد أن تعتريه الدهشة... ولِمَ لا وهذا التصرف تقوم به قناة ترفع شعارات الآراء المتباينة؟! في مايو 2008 عندما احتلت بيروت من قبل فئة لبنانية كان الصوت خفيضاً جدّاً تجاه الحدث وإبرازه، وفي أثناء يوم الحدث وليلته تم الاستماع لآراء "محللين" يُبررون أسر بيروت ومداهمة كل المؤسسات الإعلامية المخالفة لاتجاه التنظيم، الذي وضع لبنان من الشمال إلى الجنوب في جيبه؛ أما في يوم 24 يناير 2011 وعندما قام الغوغاء في تنظيم آخر بأعمال حمقاء تتصف بعدم الشمولية وعفويتها العبثية المتخبطة ومنها تهديد للوسائل الإعلامية، فحينها شُنت حملات التهجم ضد التنظيم المخالف لاتجاه القناة بداية من قاعدته وحتى قيادته المخملية! في أثناء الأزمة المصرية الأخيرة صدر قرار جمهوري بتعيين نائب للرئيس يحظى بقبول قسم كبير من الشعب المصري إضافة لعلاقاته الخارجية الجيدة مع دول الإقليم ومع صناع القرار الدولي، وفي أثناء إذاعة القرار الجمهوري وقبل أن ينطق المذيع الحكومي بآخر جملته، كتبت إحدى القنوات في شريطها الإخباري : ممثلو الشعب المصري يرفضون تعيين نائب الرئيس الجديد! أما قناة فضائية أخرى كانت إلى حد ما تحترم مهنيتها الإعلامية في بداية الأحداث، فسرعان ما تغيرت مع فوضى الشارع لتصبح مثل شقيقاتها الفضائيات الأخرى ذات التوجه الواضح، القناة الأخرى سأل مذيعها الذي يوجد في الخليج المراسلة عن أعداد المتظاهرين في ميدان التحرير يوم الثاني من فبراير، فقالت له: في فترة المساء وقبل الغروب كانوا يقدرون بربع مليون متظاهر، وكان دليلها على ذلك أن الميدان أكبر بقليل من مدرجات استاد القاهرة الذي يتسع لثمانين ألفاً، ولكن المراسلة وبعد نصف ساعة وحتى تستقطب المشاهد المتلهف للأخبار العاجلة الصادق منها والكاذب وحتى تنافس زميلتها الأخرى... أو لأسباب خارجية، ذكرت أن أعداد المتظاهرين تفوق المليون محتج! إن كل هذا القليل الذي هو جزء من كثير يثبت أن وسائلنا الإعلامية العربية من رواد الانحياز لأبرز مخالفات أساسيات المهنة الإعلامية، بل قد غدت مثلها مثل من يتظاهرون في الشارع لا فرق بينهما، ويا ليتهم أصغوا السمع وشاهدوا كيف تعمل الإذاعة والتليفزيون البريطاني، المنحاز بحكم الضرورات الغربية لإنجاز الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، ولكنه انحياز غير مكشوف، هو مستتر ويعطيك الانطباع مهما كنت مستقطباً في مشاعرك وآرائك بأنه المرجع الأهم للحدث والانطباعات الشخصية حوله. ألم تستطع محطاتنا الفضائية العربية الانتباه لعصا "المايسترو" الغربي بدلاً من اللحن النشاز في داخل الفرقة العازفة المشهورة.