لعبت تركيا دوماً دور الجسر بين أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط، والقوقاز، وهو دور بالغ الأهمية وخصوصاً أن كل دولة من الدول المجاورة لنا لها نظام حكم ونمط إداري مختلف عما لدينا. وتركيا دولة تسكنها أغلبية إسلامية وتؤمن بمبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية السوق، مما يجعل منها نموذجاً فريداً في المنطقة. وإذا ما نظرنا للمستقبل، فسنجد أن تحول ميزان القوى الاقتصادي نحو آسيا قد بات شيئاً أشبه بالمعادلات الحسابية وهو ما يعني أن ميزان السياسة سيتحول هو الآخر، وأن الولايات المتحدة وأوروبا يجب أن تبدآ في الاعتراف بأهمية تركيا ودورها في هذه المنطقة الحساسة من العالم. والنقد الذي يوجه إلينا بأن إعادة توجيه مسارنا شرقاً، يعني أن تركيا تبتعد عن الغرب وقيمه، نقد متحامل في الحقيقة، لأن الحقيقة هي أننا ماضون قدماً في عملية المفاوضات الرامية للحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، كما أن تركيا تلعب دوراً في كافة المؤسسات الأوروبية تقريباً، وتلتزم بشكل متزايد بمعايير الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك تلعب تركيا دوراً مهماً في الأزمة السورية الحالية وهو أمر طبيعي لأنها دولة مجاورة لسوريا وتتقاسم معها حدوداً تصل إلى 900 كيلومتر وعانت من تداعيات الصراع، وتعرضت بلداتها وقراها الحدودية لإطلاق نار من الجانب السوري أدى إلى مصرع مواطنين أتراك، كما فتحت الباب لاستقبال ما يزيد عن 150 ألف سوري. وقد أوضحنا منذ بداية الأزمة أننا نتبنى موقف الأسرة الدولية حيال الصراع في سوريا، ونقف إلى جوار الشعب السوري في مطالبه المشروعة والعادلة. وأود هنا التأكيد على أن تركيا لا تحبذ تدخلا دولياً في سوريا، على نمط التدخل الذي حدث في ليبيا، إلا أنها تدعو المجتمع الدولي إلى بذل المزيد من الجهود من أجل حل الأزمة المتفاقمة في هذا البلد، وألا يكتفي بالخطابة. ومن المسائل التي تثير جدلا كبيراً خصوصاً في الغرب مسألة العلاقة بين تركيا وإسرائيل التي شهدت تدهوراً ملحوظاً خلال السنوات الماضية. وأود بداية أن أوضح أن الموقف الحالي بين تركيا وإسرائيل هو محصلة طبيعية للأخطاء والتصرفات الإسرائيلية، وهو ما يعرفه العالم كله بما في ذلك حلفاء إسرائيل. وعلى رغم أن إسرائيل قامت بمبادرات قليلة لتصحيح، أو التكفير، عن الأخطاء التي ارتكبتها بحق تركيا، إلا أن تلك المبادرات لم تمض إلى نهاية الشوط للأسف، بسبب التطورات السياسية داخل إسرائيل نفسها التي تشهد استقطاباً حاداً بشأن العديد من المسائل ومنها مسألة طبيعة العلاقة مع تركيا. وترتبط بهذه المسألة أيضاً مسألة أخرى هي تلك الخاصة بالحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة. وأود هنا أيضاً توضيح أن ذلك الحصار لا يتعلق بتركيا فحسب، وإنما يتعلق بالجميع تقريباً: الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، لأن الجميع يدركون أن ذلك الحصار ينبغي أن يرفع بطريقة أو أخرى، وأن الاستمرار فيه لن يعني شيئاً سوى مفاقمة معاناة سكان القطاع الذين يعانون في الأصل من العديد من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية. وأود هنا التأكيد باسم تركيا وباسمي أنا شخصياً على أن بلدنا قد بذل قصارى جهده، وشارك في كل جهد يمكن أن يساهم في عملية السلام بين إسرائيل والعرب، ولكن الأمور لم تمض على النحو المأمول بسبب تعنت الإدارة الإسرائيلية التي تعاني من قصر نظر استراتيجي شديد. وهناك من يرى تناقضاً في الموقف التركي بشأن نزع الأسلحة النووية من الشرق الأوسط وهو تناقض يتمثل في الدعوة إلى شرق أوسط خال من الأسلحة النووية دون إبداء نوع من عدم الاهتمام بالبرنامج النووي الإيراني الذي يقلق دولا أخرى في المنطقة، وفي الغرب أيضاً. وفي الحقيقة أننا لا نقلل من خطورة البرنامج النووي الإيراني، لأننا ببساطة شديدة لا نريد أي دولة مجاورة أن تمتلك سلاحاً نووياً لا تمتلكه تركيا. وكل ما هنالك هو أننا أكثر واقعية مما يعتقده البعض، ونريد مقاربة شاملة لهذه المشكلة، بحيث تتم إزالة كافة الأسلحة النووية في المنطقة بما في ذلك تلك التي تمتلكها إسرائيل -بعد توفير كافة الضمانات الأمنية لها- وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال المفاوضات السلمية، وليس عن طريق الحرب. ويستغل آخرون بعض الأحداث المتفرقة التي تقع في تركيا مثل احتجاز بعض الصحفيين ورفع الحصانة عن بعض البرلمانيين الأكراد للادعاء بأن الديمقراطية في تركيا آخذة في التدهور في حين أن الحقيقة هي أننا نتحرك إلى الأمام باستمرار، ونقوم بتنفيذ إصلاحات عميقة كل يوم. ولكن هذا لا يحول أيضاً بيني وبين القول إننا قد نرتكب بعض الأخطاء في سياق ذلك كما يحدث في بعض البلدان الديمقراطية، ومن مسؤوليتي كرئيس للجمهورية أن أعبر عن قلقي من تلك الأخطاء، وهذا هو ما حدث بالنسبة لموضوع احتجاز الصحفيين والبرلمانيين الأكراد. ونحن لا نسعى لأن نكون قوة عالمية، وإنما نهتم بأن تصل المعايير التي نضعها لأنفسنا إلى أعلى حد ممكن، وذلك من خلال تمكين الدولة من توفير الرخاء والسعادة لمواطنيها. وعندما أقول معايير فإنني أعني المعايير الخاصة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، وهذا هو الهدف النهائي لتركيا. فعندما نرفع مستوى معاييرنا فإن اقتصادنا يصبح أكثر قوة، ونتحول نحن إلى قوة مرنة تزداد نفوذاً على الدوام. وهناك من يقول إننا نلعب دوراً في كل الديمقراطيات الجديدة البازغة في الشرق الأوسط والعالم العربي على وجه التحديد. وردي على ذلك أنه إذا ما أراد الآخرون أن يتخذوا منا نموذجاً يحتذى فهذا خيارهم. واتجاه دول مثل مصر وتونس وليبيا بالسعي لتقليد النموذج التركي لأننا مسلمون، وديمقراطيون، ولدينا قصة نجاح اقتصادي، شيء يسعدنا في الحقيقة. فالمسؤولون في تلك الدول يعتقدون أنهم بتقليد النموذج التركي يستطيعون تحقيق نفس تلك الإنجازات، ونحن من جانبنا نساعدهم، ونتضامن معهم، ونقدم لهم خبراتنا في تحقيق النجاح، ولكننا نفعل ذلك دون أن تكون لدينا نية لعب دور الأخ الأكبر. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»