قبل بضعة أسابيع، حضرت حفل عشاء هنا في واشنطن، مع مجموعة من علماء السياسة من الساحل الغربي. وأثناء الحف سألتني أستاذة كانت تجلس على الناحية الأخرى من طاولة الطعام عن ميولي السياسية، فأجبتها قائلاً: «إنني أعتبر نفسي وسطياً». «هذا يعني أنك محافظ»، هكذا ردت الأستاذة على ما قلته، قب أن تلتفت بعيداً وتبدأ في الحديث مع شخص آخر. لم أشعر بأي استياء تجاه تصرف تلك السيدة، لكنني تعجبت من عدم رغبتها في استكشاف آرائي السياسية الفعلية. وبدا الحديث المقتضب المتبادل بيننا وكأنه يحتوي على أعراض المشكلات الجوهرية كافة التي تواجه الديمقراطية الأميركية. فنحن على حق فيما ينتابنا من قلق بشأن ترامب. فعدم رغبة حزبه في كبح جماحه، يشكل تحدياً خطيراً لنظامنا. لكن هناك مجموعة متنوعة من القوى السياسية والاجتماعية، تلاقت على مدى العقود الثلاثة الماضية، لتنتج تأثيراً مدمراً. وقائمة هذه القوى طويلة وتشمل: صعود المشاعر العشائرية، وتعميق الاستقطاب السياسي، وجمود الكونجرس وتضاؤل معدل الكياسة التشريعية، وغرف الصدى التي أنشأتها وسائل الإعلام الاجتماعية، والبرامج الحوارية الإذاعية، وتلفزيون الكابل. والاستيلاء على النظام السياسي من قبل المصالح الثرية، وقمع الناخبين. لهذا السبب، يجب أن نرحب بالأخبار القادمة إلينا هذا الأسبوع من ولاية نورث كارولينا، حيث قامت لجنة مكونة من ثلاثة قضاة اتحاديين، بإلغاء قانون تقسيم الدوائر الذي دشنته الهيئة التشريعية للولاية التي يسيطر عليها «الجمهوريون»، والذي كان مجرد مناورة في سلسلة طويلة من المناورات المشبوهة التي قام بها الجمهوريون في الولاية على مدى سنوات طوال لتقسيم الدوائر لمصلحتهم. مع ذلك، يتعين القول إن «الجمهوريين» ليسوا الوحيدين المذنبين في هذا النوع من المناورات. فإذا ما قررت المحكمة العليا، كما يتوقع بعض الخبراء، أنها ستستمع إلى العديد من قضايا التلاعب في الدوائر الانتخابية المعروضة حالياً، كحزمة واحدة، فإن ولاية نورث كارولينا وولاية ويسكونسن اللتان يسيطر عليهما «الجمهوريون»، ستنضمان على الأرجح إلى ولاية ميريلاند التي يسيطر عليها «الديمقراطيون»، والتي تتباهى بوجود بعض الدوائر الانتخابية الأكثر غرابة، من ناحية التقسيم، في البلاد. لحسن الحظ، هناك حلول لعملية التقسيم الجائر للدوائر لتحقيق أفضلية انتخابية. ولكن حل المشكلات الأخرى التي تعكس التحولات الاجتماعية الأكثر عمقاً، يعتبر أكثر صعوبة بكثير. فكيف يمكن لنا، على سبيل المثال، مواجه مشكلة الفرز الذاتي الناتجة على أن حراك الأفراد في المجتمع الأميركي الحديث، بات يعني أن المواطنين أصبحوا ينحون، بشكل متزايد، لاختيار المكان الذي يرغبون في العيش، والعمل فيه، بحيث يكون قريباً من الأشخاص الذين لديهم خلفيات اجتماعية متشابهة، وآراء سياسية متماثلة. وعندما يتعزز هذا الاتجاه، بالاستهلاك الانتقائي لوسائل الإعلام التي تكرس معتقداتنا القائمة، فإنه يصبح لدينا وصفة مثالية للاستقطاب. وقد عكست أحزابنا السياسية التي كانت تعمل ذات مرة كـ «خيام كبيرة» هذا التوجه، بأن أصبحت تميل لأن تصبح أكثر تجانساً. فمنذ وقت ليس ببعيد، كان الحزب «الديموقراطي» يضم عدداً كبيراً من المحافظين، وكان عدد معتبر من الليبراليين المعتدلين، يعتبرون أنفسهم «جمهوريين»، ما ساعد الحزبين في كثير من الحالات على إيجاد أرضية مشتركة. ولكن مع ازدياد تركيز كل حزب من الحزبين الكبيرين على الأيديولوجيا، وجدنا أن مساحة الحل الوسط تقلصت، وأن ذلك ترافق مع آثار جانبية من ضمنها أن عدداً متزايداً من الأميركيين، أصبحوا يشعرون الآن بأنهم قد باتوا مستبعدين من قبل النظام. كريستيان كاريل* *كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»