كعادته كل عام يصدر بابا روما رئيس الكنيسة الكاثوليكية حول العالم، الرجل ذو الرداء الأبيض، والذي تخضع له روحياً مليار وثلاثمائة نفس في قارات الأرض الست، رسالته ليوم السلام العالمي، الذي يصادف الأول من شهر يناير من كل عام. لم يخلف البابا وعده هذا العام، سيما وأن الأعوام القليلة المنصرمة كانت مليئة بالإرهاب والحروب مادعا السلام لأن يغيب من حولنا، وقد بان جلياً حاجة العالم للسلام من خلال مآسي اللاجئين والمهجّرين. جاء البابا فرنسيس هذا العام ليخاطب العالم عن «الرجال والنساء الذين يبحثون عن السلام»، وقد قصد بهم الملايين من اللاجئين والمهجرين الذين رأيناهم في رحلتهم التعيسة لإيجاد بلاد تقبل أن تقدم لهم المأوى. من قلب أوروبا التي تتصاعد فيها في الأعوام الأخيرة حركات اليمين المتطرف، الرافض للاجئين والمهجّرين، والساعي لإغلاق الأبواب في وجوههم، يتحدث فرنسيس عن معانقتهم بروح الرحمة، قاصداً أولئك الذين يهربون من الحرب ومن الجوع، أو هم مرغمون على ترك أراضيهم بسبب التمييز والاضطهاد، والفقر والتدهور البيئي. قبل أن يتحدث البابا نظرياً عن اللاجئين والمهاجرين، كان قد بذل بالفعل جهوداً روحية إنسانية على مستوى المؤسسة الكنسية التي يترأسها، فقد أصطحب بعض الأسر الشرق أوسطية من اللاجئين للإقامة في مباني تابعة لحاضرة الفاتيكان، كما طلب من كل الكنائس الكاثوليكية في العالم أن تفتح أبوابها لاستقبال عائلات المعذبين في الأرض. «هل يطلب خليفة بطرس» من كاثوليك العالم فتح القلوب لمعاناة هؤلاء الآخرين وكفى؟«الكلمات التي سطرها بابا روما في رسالته ليوم السلام العالمي هذا العام، أشار فيها إلى أن هناك الكثير الذي يمكن القيام به قبل أن يتمكن أخوتنا وأخواتنا من العودة للعيش في سلام في منزل آمن، وعنده أن استقبال الآخر يتطلب التزاماً ملموساً، وسلسلة مساعدات، ورفق، وانتباه ساهر ومتفهم، وتدبير مسؤول لأوضاع جديدة معقدة، تضاف أحياناً إلى أوضاع أخرى ومشاكل عديدة موجودة. رسالة البابا لأوروبا والعالم بشأن اللاجئين لا تتوقف عند المؤمنين التابعين لكنيسته فقط، بل إنه يوجهها كذلك للحكام والقادة والرؤساء، وإن بنوع خاص في القارة الأوروبية، إذ يرى أنه باستطاعة هؤلاء، عبر ممارسة فضيلة الفطنة، أن يستقبلوا ويعززوا ويحموا ويدمجوا هؤلاء، واضعين تدابير عملية «ضمن الحدود التي يرسمها الصالح العام بمفهومه الصحيح كي يسمح بهذا الدمج». هنا يبين البابا أن الرؤساء والزعماء تقع على عاتقهم مسؤولية محددة تجاه مجتمعاتهم الخاصة، التي ينبغي عليهم ضمان حقوقها وتنميتها المتناغمة، كي لا يكونوا مثل الباني الجاهل الذي أخطأ بالحسابات ولم يستطع أن يكمل البرج الذي شرع ببنائه. حبر روما الأعظم يرفع صوته عالياً تجاه البلدان التي تأخذ من أزمة اللاجئين والمهجرين ذريعة لإطلاق مشاعر الكراهية والرفض تجاه الآخر، أولئك الذين يضخمون من أخطار الأمن الدولي، أو عبء استقبال القادمين الجدد، ويصفهم البابا بأنهم بهذا الشكل يستهزئون بالكرامة الإنسانية، التي يجب الاعتراف بها للجميع، كأبناء وبنات لله. يقطع بابا الكاثوليك بأن:«الذين يثيرون الخوف إزاء المهجّرين، وربما لأسباب سياسية، بدل بناء السلام، هم يزرعون العنف، والتمييز العنصري". يلفت بابا الفقراء فرنسيس انتباه العالم كله إلى ظاهرة اللاجئين وأنها ستطبع مستقبل البشرية، الأمر الذي يعتبره البعض خطراً، إلا أنه يدعو الجميع للنظر إلى المشهد نظرة مغايرة، نظرة ملؤها الثقة، كفرصة لبناء مستقبل من السلام. يستند البابا في تأصيله لهذه الرؤية إلى روح وحكمة الإيمان التي تخبرنا بأننا ننتمي إلى عائلة واحدة، المهجّرون والشعوب المحلية التي تستقبلهم، ويجزم بأن للجميع الحقوق نفسها في الاستفادة من خيرات الأرض التي هي عالمية، كما تعلم العقيدة الاجتماعية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية. تنظر الدول الأوروبية والتي هي هدف نهائي للاجئين والمضطهدين إلى أولئك على أنهم عبء ثقيل، بل اختصام من الواقع الثقافي والإنساني، وتدمير للأحوال الاقتصادية، ويمضي دعاة القوميات المتطرفة إلى اتهامهم بأنهم يحملون في عقولهم وقلوبهم أبعاد مؤامرة ديموغرافية لتغيير صورة وملامح أوروبا السكانية في العقود القادمة. لكن الجالس سعيداً على كرسي روما يرى أن تلك نظرة خاطئة يجانبها الصواب، فهؤلاء لا يقدمون فارغي الأيدي، بل إنهم يحملون شحنة من الشجاعة، والقدرات، والطاقات، والتطلعات، بالإضافة إلى ثروات ثقافتهم الأصلية ويغنون بهذه الطريقة حياة البلدان التي تستقبلهم. يفتح البابا المستقبل أمام الطرفين، ويخبر الخائفين من الأوروبيين بأنهم سوف يرون إبداعا ومثابرة وروح تضحية يمتلئ بها الكثير من الفقراء المنبوذين القادمين إليهم من حيث ضاع الأمل. يطرح البابا القضية على مستوى أممي، ذلك أنه يصف المشهد الحالي بأنه يحتاج إلى استراتيجية تجمع أربعة إجراءات: استقبال، حماية، تعزيز وإدماج، وفي الوقت نفسه يسأل المجتمع الدولي وضع ميثاقين شاملين من قبل الأمم المتحدة والموافقة عليهما، أحدهما من أجل هجرة آمنة ومنظمة ومنتظمة، والآخر بشأن اللاجئين. ويمثل هذان الميثاقان كاتفاقين مشتركين على المستوى الشامل، إطاراً مرجعياً من أجل اقتراحات سياسية وتدابير عملية. الخلاصة الذكية لدى الإرادة البابوية هي أن الحوار والتعاون في الواقع يشكلان ضرورة وواجب خاص بالمجتمع الدولي، ومن الممكن أيضاً خارج الحدود الوطنية، أن يكون باستطاعة بلدان أقل ثراء أن تستقبل عدداً أكثر من اللاجئين أو تستقبلهم بطريقة أفضل إذا ضمن لهم التعاون الدولي توفير الأموال اللازمة.