ألقيت بذور الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر عام 1991. فقبل ذاك التاريخ بيوم، سلّم ميخائيل جورباتشوف، الأمينُ العامُ للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، السلطةَ إلى رئيس بلدية موسكو بوريس يلتسين. وبين عشية وضحاها اختفت أكبر وأكثر الإمبراطوريات سلطوية في التاريخ. ولم يُهزم الاتحاد السوفييتي في حرب، بل انهزم من داخله ليفسح المجال لظهور كثير من الدول الجديدة التي أصبحت تعارض روسيا وتحرص على نيل الدعم من الغرب. وفي تسعينيات القرن الماضي، عانت روسيا آلاماً شديدة أورثتها اقتصاداً كارثياً وبنية صناعية عملاقة تم بيعها سريعاً إلى المستثمرين من القطاع الخاص، بنصح ومساعدة من الغرب في الغالب. وتم تحويل كميات هائلة من المواد الخام إلى ملكية القطاع الخاص، ما أفسح المجال لصعود طبقة جديدة من المستثمرين حققوا ثروات طائلة، وحولوا كثيراً من أموالهم إلى بنوك غربية. وظهر الحديث عن «نظام عالمي جديد» اعتبرت أميركا فيه القوة الوحيدة العظمى وتحركت كثير من البلدان إلى اعتناق المؤسسات والقيم الغربية. ولم يشعر أحد بالإهانة، كما شعر بها فلاديمير بوتين عام 2000 الذي حل محل يلتسين كرئيس للاتحاد الروسي. وكان بوتين مقتنعاً بأن الغرب يستهدف توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً وضم أوكرانيا إليه وإلى الاتحاد الأوروبي. وشعرت روسيا أيضاً بالإهانة من التدخل العسكري الغربي المباشر في حروب البلقان. صحيح أن بوتين دعم الولايات المتحدة بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر عام 2001، لكن الغرب ظل يتدخل في علاقات روسيا مع جيرانها، وخاصة في مولدوفا عام 2003، ما أقنع بوتين بأن روسيا لن تكون أبداً شريكاً على قدم المساواة مع الولايات المتحدة والغرب ما لم تُظهر استقلالاً وتتصدى لطموحات الهيمنة الأميركية. وتجلّت ثقة روسيا الجديدة بنفسها في فبراير عام 2014 بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني المؤيد لروسيا فيكتور يانوكوفيتش خلال انتفاضة شعبية عارضت القرار الذي اتخذه بطلب من بوتين بتعليق اتفاق يعزز العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. وتطورت الأحداث حتى ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وأذكت حرباً أهلية في شرق أوكرانيا، ثم فرضت أميركا وأوروبا عقوبات مازالت قائمة ضد روسيا. وفي عام 2015، قرر بوتين التدخل في الحرب الأهلية السورية إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، منقذاً إياه من الهزيمة، ومستعيداً حضور وقوة الروس في المنطقة. وفي الرابع من مارس 2018، في سالزبيري في المملكة المتحدة، عُثر على العميل المزدوج سيرجي سكريبال وابنته يوليا، وقد تعرضا للتسميم بمادة كيماوية يعتقد أنها أُنتجت في روسيا. وأدى غضب الغرب من احتمال ضلوع روسيا في تسميم سكريبال إلى قيام 20 دولة بطرد دبلوماسيين روس، وإلى طردٍ مقابل من جانب روسيا لدبلوماسيين غربيين. والعلاقات بين موسكو الغرب في وقتنا الحالي تمر بأسوأ فتراتها منذ ذروة الحرب الباردة، ما يفرض أخطاراً كبيرة، ويبث شكوكاً حول مستقبل التعاون في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية الاستراتيجية. وقد ظهور سباق تسلح جديد بين روسيا والولايات المتحدة ربما يكون من أخطر التداعيات الناشئة عن نشوب حرب باردة جديدة. لقد كان هناك أمل، بعد نهاية الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، في أن يجري تقليص الأسلحة النووية في روسيا والولايات المتحدة، صاحبتي أكبر ترسانتين نوويتين، ما يجعل إقناع الدول النووية الأخرى بتقليص مخزوناتها النووية أسهل من ذي قبل. وفي فبراير 2011، وبعد جدل محتدم، صدق مجلس الشيوخ الأميركي على «معاهدة البداية الجديدة مع روسيا» بهدف تقليص وتقييد الترسانة النووية الاستراتيجية بشكل أكبر في البلدين. وينتهي العمل بالمعاهدة عام 2021، ويمكن تجديدها لخمس سنوات بموافقة الطرفين. ومستقبل هذه المعاهدة الآن محل شك في ظل توتر العلاقات في الآونة الأخيرة بين البلدين. وإذا ما تم التخلي عن المعاهدة أو لم يجر تجديدها، فهذا سيمثل عقبة رئيسة في تقييد انتشار الأسلحة النووية على امتداد العالم. وفيما يوحي بانتشار روح الحرب الباردة الجديدة، تباهى الرئيس بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتزامهما تحديث قواتهما النووية، لمدها بأسلحة جديدة أكثر فتكاً. وأعلن ترامب أنه سيوسع ويطور الأسلحة النووية الأميركية ليفوق الجميع. وفي الثاني من مارس المنصرم، عرض بوتين مقطعاً مصوراً متخيلاً لرؤوس نووية روسية تضرب فلوريدا، فأخبره ترامب من جانبه بأنه إذا ما نشب صراع تسلح آخر فستكسبه الولايات المتحدة. وبهذا الخطاب الذي يتكرر يومياً تقريباً، لا عجب أن دولا نووية أخرى، مثل الصين والمملكة المتحدة وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية.. لن تدعم تقليص قواتها النووية. والصفقة النووية مع إيران تحاصرها المخاوف، ولذا قد لا يكون هناك مفر من انتشار نووي جديد في الشرق الأوسط. وقد تحدث مواجهة عسكرية غير نووية في بداية الأمر بين روسيا والغرب، ربما في الشرق الأوسط أو في أوروبا. والنظام العسكري الروسي يجيز استخدام الأسلحة النووية الصغيرة حال نشوب مواجهة عسكرية كبيرة مع الغرب أو أي عدو آخر. لذا من الممكن أن يتطور أي اندلاع خطير آخر للقتال بين روسيا وقوى الغرب في أوروبا أو حتى في الشرق الأوسط إلى حرب شاملة. وكان يُعتقد أن هذه الأهوال صفحة طواها التاريخ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن طموح بوتين لاستعادة السطوة والمجد الروسيين، وسوء إدارة الغرب لعلاقاته مع روسيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، ساهمت كلها في حرب باردة جديدة قد تكون خطيرة وعالمية مثل سابقتها.