في دبي حيث كنت الأسبوع المنصرم حضرت مؤتمر مؤسسة الفكر العربي الذي انعقد برعاية الشيخ محمد بن راشد وإشراف الأمير خالد الفيصل بحضور عدد وافر من السياسيين والمفكرين والإعلاميين، تناولوا بالنقاش الحر موضوع صناعة الاستقرار في العالم العربي. ولا شك أن الموضوع شديد الأهمية في اللحظة الراهنة التي أصبح مطلب الاستقرار فيها على رأس الأجندة الإقليمية، تطلعاً للخروج من مأزق متفاقم لخصه وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي «أنور قرقاش» بمعادلة استباحة الأمن القومي، والتدخل الخارجي في القضايا العربية، وتصاعد موجة الإرهاب والتطرف الديني بدعم من الأطراف الإقليمية المجاورة. وفي ورقتي المقدمة للمؤتمر توقفت عند ثلاثة محاور تتعلق بالجانب الثقافي من متطلبات صناعة الاستقرار عربياً: المحور الأول يتعلق بالإشكال الأساسي الذي يطرحه الانتقال السياسي في العالم العربي من حيث العلاقة المعقدة بين المسطرة الإجرائية للديمقراطية التعددية والإطار الثقافي والمعياري الناظم للفكرة الديمقراطية، أي الثقافة الليبرالية في دلالتها الواسعة. وبدون الخوض في هذه الإشكالية النظرية الكثيفة، نكتفي بالإشارة إلى أن عملية الانفتاح السياسي التي عرفتها العديد من البلدان العربية أفضت في غياب هذه الأطر الثقافية الناظمة للديناميكية التعددية إلى نسف الاستقرار السياسي بسيطرة القوى الأيديولوجية المناوئة للثقافة الليبرالية على منافذ وآليات التمثيل والقرار. المفارقة الجلية هي أن المقاربة الديمقراطية التي برزت في مهدها الأصلي (في الغرب) حلاً للصراع الأهلي والفتنة الداخلية، تحولت في الساحة العربية معولاً للسلم المدني والاستقرار السياسي نتيجة لغياب التوازنات المجتمعية الضرورية للمجتمع الديمقراطي التعددي. لا نعني بالليبرالية لوناً أيديولوجياً بعينه وإنما المبادئ والشروط العامة الضامنة للاستقرار السياسي في مجتمعات تعددية، وهي التي صاغها مفكرو عصور الأنوار في مبدئين كبيرين هما: المساواة في الحقوق الأساسية بين الأفراد (المواطنين)، وقبول واحترام مقتضيات التعدد الفكري والقيمي في إطار محددات العقل العمومي المشترك. من دون هذه الخلفية المرجعية التوافقية تصبح الآلية التنظيمية الإجرائية نفسها خطراً على الديمقراطية ومسلكاً لاستبدادية الأغلبيات الانتخابية التي هي أخطر أنواع الاستبداد السياسي. أما المحور الثاني فيتعلق بالصناعات الثقافية التي تحولت في الثورة التقنية الراهنة إلى مرتكز للاقتصاد الجديد القائم على المعرفة والذكاء الاصطناعي، بيد أن الثورة الاتصالية الحالية لم تفض في العالم العربي إلى خلق مجتمع الشفافية المفتوح المحرر للوعي والمكرس للمجال النقاشي العمومي التعددي، بل أدت إلى مضاعفة آليات التأجيج الراديكالي العنيف والتعصب الديني والطائفي. ومن هنا التحدي الكبير المطروح اليوم في الساحة العربية بخصوص الاستخدام الناجع الأمثل للتقنيات الاتصالية الجديدة لدعم الاستقرار السياسي والاجتماعي بدلاً من أن تظل معولاً إضافياً من معاول هدم الوجود المجتمعي المنظم. أما المحور الثالث فيتعلق بالعامل الديني نفسه الذي تحول من دعامة للأمن الاجتماعي والسلم الأهلي والهوية المشتركة إلى بؤرة خطيرة للعنف وعدم الاستقرار. ففي حين انهارت المؤسسة الدينية المنظمة ولم تعد قادرة على ضبط الحقل الديني في المجتمعات المسلمة (السنية على الأخص) أصبحت الثقافة الدينية السائدة في الكثير من مضامينها من نتاج التنظيمات الأيديولوجية المتطرفة وتحول الدين نفسه إلى مادة للتجاذب السياسي والأيديولوجي بعد أن كان مرتكز الإجماع الوطني وقاعدة الانتماء المشترك. ما يعنيه هذا التحول هو انتهاك قداسة الدين في أبعاده المطلقة وتحويله إلى منظومة أيديولوجية ضيقة بما يؤول إلى أسوأ أنواع العلمنة أي العلمنة الخفية غير الواعية التي لا تهدف إلى استيعاب القيم المعيارية العميقة للدين بترجمتها في مفاهيم وقوالب العقل العمومي وإنما تنزع منه هذا المخزون القيمي فتحوله إلى أداة للقتل والكراهية. يبقى السؤال المطروح هو: على من التعويل في استراتيجية بناء الاستقرار العربي المنشود؟ بخصوص هذا السؤال برز من الجلي خلال مؤتمر دبي أن الشرط الضروري والوحيد لإخراج المجتمعات العربية من الفتنة والتفكك والاختراق الأجنبي هو بناء عناصر القوة الاندماجية العربية وترميم النظام العربي وتفعيل مؤسسات عمله المشترك. ومن هنا التعويل على الجهود المبذولة لكي تكون قمة الرياض نقطة تحول في العلاقات العربية العربية في اتجاهات ثلاثة مترابطة هي: العمل لإطفاء بؤر التوتر والصراع في المنطقة العربية من خلال الدفاع عن الشرعيات الوطنية وتكريس منطق المصالحة والسلم الأهلي، وإعادة تجذير منظور الأمن القومي الجماعي في مواجهة التدخل الخارجي والاختراق الأجنبي، وتسريع وتيرة الاندماج الإقليمي على أسس المصلحة المشتركة والنجاعة العملية.