هنا في زاوية منسية من شارع المرقاب، أجلس مطمئنة لأراقب العالم من ثقب الباب! اليمامة البرية تلقط البذار وتدرج مطمئنة في رحاب البيت، وأنا أبحث عن مدارجي في رأفة الظلال. لا صخب الشوارع، لا ضجة العابرين على أرصفة التعب. ولا الكلام عابراً. مجرد فتنتي، بل حكمتي، إذا الحدوس أيقنت بأنها نبوءتي، أو أنني الجمرة في حرقتها، أو أنني روح اللهب. ربما ظننت في لحظة وهمية أنني قد أصل بين التراب والسحب. خديعة الواهم إذ يظن أن التراب والسحب ليس بينهما منابع المحيط، والرياح في غموضها، والفصول في تعاقب رتيب. الآن في مكمني هنا أرقب ما يصل السماء بالتراب، وما يصل البحار بالسحاب، وما يرج المحيطات إذا ارتأت من غضب، أن تعلن الدمار وتهلك البشر. فللطبيعة حكمها وحكمتها، والجهل من مساوئ البشر. لكنني معنية كثيراً في هذه اللحظة الراحلة في نفق الزمان، اللحظة الساقطة في بؤرة النسيان، أن أكتب شهادتي على غرائب الزمان، وغفلة الإنسان إذ يسقط في حبائل الإنسان! ولست معنية بما لم يأته قبلي أحد. كل ما يعنيني أن أقبض هذه اللحظة بين يدي، كنت ظننت أنها جوهرة ثمينة فأحكمت عليها قبضتي، فإذا اللحظة زئبق راودني عن ظله وانسل، لم يترك سوى حبر طفيف، وسوى نقش باهت في صفحة العمر، وسوى خط رهيف في دفتر النسيان. كم كتبت وظننت أنني... فلم أعثر على ما أشتهي، ولم أعثر عليّ. هل أنا كون خفي غامض أعصى من الكون الخفي؟ أم أنا بعضي يراني هكذا، ويراني الآخر مجهول عصي؟ ليس هذا الحبر، ولا هذا الكلام ما أردت الآن أن أدرجه في صفحة المرقاب. هو من نبع خفي غامض في النفس، أو من خلايا اختزنت ذاكرة الأمس، أو أنه طفل طري ولد للتو، حبلت به الروح منذ زمان موغل في البعد أو في القرب أو ما بين بين.. ثم حانت لحظة الميلاد فلم أقدر على كبح المخاض، واندفق الحبر، وجاء الطفل لم يخضع لميزان ولم يخرج على الميزان! كم ساعة قضيت كي أكتب هذه الأسطر القليلة؟ كم سنة قضيت كي أجمع هذه الأحرف القليلة؟ كم فرحة رقصتها، كم عثرة كبوتها، كم طرق عبرتها، كم دمعة.. كم ضحكة.. كم كتب قرأتها، كم حقب سألتها، كم أضأت واحترقت، فلم أجد بين يدي سوى المرقاب الذي يحنو علي!