ها أنا أجيء إليك مرة ثانية لأراك كما كنت جميلة وبهية ومدهشة. شوارعك مرصوفة بعناية ودقة هندسية نادرة لم أرها في دول العالم شرقاً وغرباً، التي زرتها مدعوة أو سائحة. الشوارع الرئيسة للسيارات مرسومة بدقة واتساع تحيط بها الأشجار الكثيفة، حتى إذا كانت بين طرقات المدينة السكنية. والتقاطع المخصص بين الشوارع لعبور المشاة مذهلة في اتساعها وهندستها. وعلى جانب كل شارع رصيفان، واحد مخصص لراكبي الدراجات، والآخر للمشاة. وكلها مرصوفة بدقة تجعل من المشي فوقها رياضة ومتعة وراحة. فقلت لنفسي لعل هذا هو السبب الذي يدفع بسكان شنغهاي إلى رغبة المشي في طرقاتها السلسة والجميلة. وكثرة المشاة ليلاً ونهاراً لا تتوقف، بسبب تبدلات الفصول وطبيعة المناخ. فحين تمطر السماء يسيرون مستظلين بمظلاتهم الجميلة. وحين تشتد حرارة الطقس تسير أغلب النساء شابات ومسنات بملابس خفيفة وفق مفهوم الحرية الفردية في الصين.
أجلس الآن في مقهى صغير على الرصيف في انتظار ابنتي التي ذهبت إلى معهد رياضي لتمارس الرياضة كعادتها. الشارع صغير يفصل بين بنايتين على الطراز الصيني التراثي. مرصوف بعناية للمشاة، بألوان من الطوب البني والأبيض والرمادي تحيط به من الأسفل إضاءة تمتد على طوله وتعرجاته لتجعله مضيئاً ليلاً ونهاراً تسهيلاً للمشاة.. لذا يكثر المارة ذهاباً وإياباً متجهين إلى مكان ما أو غاية ما. فالمشي لقضاء مطلب يومياً أو لمجرد التنزه والاستطلاع لا تحده بعد المسافات بين غاية وغاية. فإذا كانت المسافة إلى غايتك تستغرق نصف ساعة، فإنها في مفهوم سكان شنغهاي تبدو بسيطة وممتعة. وحتى لو كان أبعد من ذلك زمنياً فإنها بسيطة أيضاً وسبب لرياضة المشي والاكتشاف والفرجة. أما نحن فإننا من أجل كل حاجة نقصدها من متجر، أو زيارة قريب، نسارع لركوب السيارة. فأقرب متجر بين بيتي ومبنى المتجر يساوي أقل من خمس دقائق سيراً على الأقدام، لكني كلما استدعتني حاجة لشراء شيء من مستلزمات البيت سارعت إلى ركوب السيارة! كأنما المشي عيب اجتماعي أو لأن الطريق بين بيتي والمتجر لا يغري أبداً بالمشي شتاءً أو ربيعاً. أما صيفاً فهو حكم الطبيعة. تذكرت هذا حين دعتني ابنتي للذهاب إلى مطعم للغداء، فسألتها أين يقع المطعم؟ قالت: إنه قريب - وضحكت- فقط نصف ساعة!
ضحكتُ وقلت لها: وهل سنركب سيارة: قالت: لا ماما، سنمشي إليه، وسوف تستمتعين بالمشي، فأنت هناك لا تمارسين المشي كرياضة ومتعة.
فقلت لنفسي: لأني هناك لم أر الناس تمشي على الأرصفة «زرافات ووحدانا» كما يمشون هنا في شنغهاي!.