لم تعد البيوت في هذا الزمن حميمية وأليفة وصديقة كما كانت، عندما كان الانسان يبني بيته من ثراء الطبيعة المحيطة به. سكان السهول والجبال يبتنون بيوتهم بالطين والماء والتبن والأصابع الماهرة، ويسورنها بجدران من الحجر المطمئن إلى صلابته. سكان الغابات يبتنون بيوتهم من جذوع الأشجار المعمرة والأغصان. سكان الصحارى يغزلون خيامهم بأصابع الأنوثة المبدعة ودفء الوبر، وكان فناء الدار هو الفضاء الرحب بيقظة نهاره وهمس كواكبه وأسرار ليله. أما سكان الخليج والواحات فإن لهم من النخيل مرضعة وزاداً ومأوى. من جريد النخل وجذوعه وليفه تبنى خيام الشتاء برصانتها ودفئها. وعرائش الصيف بهندستها المفتوحة على الجهات الأربع. أما فناء البيت فقد كان متسعاً بقدر ما يسمح الواقع المعيشي. وكان سور البيت ككل غرفه من جريد مضفور بحبال النخيل وطمأنينة أهله وأمان الوطن. كان الإنسان في بناء بيته ابن الطبيعة البار، وكان بفطرته يعرف قوة الجاذبية وسر الضغط الجوي وحكمة الوزن في مواجهة العناصر والزمن. وكان بتجربته ومعرفته الشفاهية المتوارثة يعرف قياسات الزوايا والدوائر والمثلثات والحجم والخفة والثقل وطبيعة المواد التي تمنحه الطواعية أو تستعصي عليه. وفوق كل ذلك كان لمواد البناء أسماء أرق على السمع وألطف للنظر كالجريد والسعف والحبل والحصير والخشب. واليوم تجرح الأذن أسماء قاسية وفجة مثل: كونكريت، حديد، قواعد صب، سراميك، جرانيت، أسمنت مسلح! وكأن من يبني بيته يخوض حرباً ويواجه عدواً متربصاً. وتبنى البيوت بأيدٍ لا تعرف المهارة في أغلبها ولا تضمر المحبة ولا الإخلاص ولا الأمانة. وحين كانت البيوت تمتد كالأفق الرحب وتنتثر كالنجوم صارت بيوت هذا الزمان متراصة ومتلصصة، لا سرية للهمس فيها ولا كتمان للأسرار. متعالية بلا شموخ ولا فيء لها غير أنها تحجب الضوء وحركة الظلال، ولا دفء فيها في الشتاء، ولا برودة في القيظ. أسوار من الأسمنت المسلح تحيط بالإنسان في اليقظة كما في النوم، تحكم حصارها على الأبواب التي تنفتح على بعضها، كأنها زنازين أو متاريس. وحين يأتي زائر من البعيد لا تسمع الطرق الأليف الذي ينبئك بهوية الطارق. بل صلصلة أجراس توقظ الطفل في الرحم والشيخ في غفوة السنين. وإذا ما تعطلت لأسباب كثيرة، عاد الزائر بخيبة العائد وندم الذي عانى غثاثة الطريق والخطر المتربص دوماً في هدير الطرقات واكتظاظها بأسباب المنايا. بيوت مسلحة صنعت من إسمنت مسلح كأننا في جبهة للقتال، لا نسمع فيها صفير الرياح ولا حنين الرذاذ، ولا نسمع فيها بعضنا!