لقد حاولت الأجيال السابقة في مجتمعاتنا العربية منذ الخمسينيات أن تختط لنفسها طريقاً نهضوياً مغايراً للغرب، تزعمته الحركات الدينية والقومية، بالرغم من اختلاف أيديولوجياتهم، أو مقلداً للغرب، مثلما نادى بذلك المتفرنجون أو الفرنكوفونيون أو الإنجلوسكسونيون، أو تابعاً كالإمعة، كافراً بعروبته وإسلامه وقيم مجتمعه، مثلما كان يفعل الكثير من المهاجرين والمهجرين، رغم دور بعضهم النهضوي والتقدمي وحتى الوطني، وبقيت الفئة التي أرادت ذلك التزاوج بين الشرق والغرب، وهذا كان ديدن المثقفين والطلائعيين، لكن هذا التشطر والمزاوجة لم ينجحا على الدوام، فكان لابد من التعدد عند بعضهم، ولابد من الزواج الكاثوليكي عند بعضهم الآخر، غير أنهما لم يجتمعا سوية، لأنهما على طرفي نقيض.
في الثمانينيات ظهرت بوضوح عورات مجتمعاتنا العربية، لأن مثل الزلازل حدثت فيها، رجّة اجتماعية في مجتمعات النفط الذي قلب كل الأشياء وغيرها، حتى تلك التي تمس القيم والثوابت ودعائم الهوية العربية والإسلامية، وظهرت في المجتمعات العربية الأخرى رجّات بطرق مختلفة شبيهة بالرجّة النفطية، مثل هجرة الريف نحو المدينة واحتلالها وتغيير ملامح العواصم، فيما يعرف كمصطلح «أريفة المدن»، ومثل قلب الهرم الاجتماعي مثلما حدث في مصر وبعض مجتمعات بلاد الشام، واختفاء الطبقة الوسطى، وظهور طبقات شعبية جديدة هي التي صارت تقود المجتمع وتفرض لغة الشارع وتعطي للأشياء الجديدة مسمياتها في كل مجالات الحياة، مع «عبدالحليم حافظ» ظهر «عدوية»، ومع «يوسف شاهين» ظهر المنتج المقاول، ومع ابن الباشا المتفرنس ظهر ابن تاجر الدرب الأحمر الجاهل، ومع موظف القطاع العام في عمر أفندي الذي كان يداوم ببدلة «بيج سفاري» رسمي، ظهر بائع  بقميص مشجر مفتوح الصدر في شارع الشواربي.
اليوم.. مع أجيالنا الجديدة نعاني أكثر من الهوية المرتعشة، ومن ضعف المناعة اللغوية التي يمكنها أن تصلب قاماتهم، وترزّهم في المكان، اليوم لا نجد مثالاً عربياً إسلامياً يمكن أن تسوّقه وسائل التواصل الرقمي والاتصال التقليدي، فأبناؤنا يعرفون منذ الابتدائية عن «جورج واشنطن» لكنهم يجهلون شخصيات عربية وإسلامية بالمقابل، لقد حزنت حين سمعت من بعض أجيالنا الجديدة أن «ياسر عرفات» من الصحابة، وقد تلقى تعذيباً في بداية إسلامه من كفار قريش هو وأمه سميّة! وقس على ذلك، يعرفون عن «ماجلان» ولا يعرفون عن «ابن بطوطة أو الإدريسي»، يدرسون الجبر، ولا يعرفون من هو الخوارزمي، اليوم في ظل الهويات المرتعشة، وضعف المناعة اللغوية، يتمنى الكثير من الطلع الجديد أن يكون «يوتيوبر أو سنابر أو بلوقر أو فاشينيستا» وحتى «دي. جي»، ولا يتمنى أن يكون فارساً أو معلماً أو طيّاراً! والسبب ما يرونه من حياة الرفاهية والاستهلاك ومتع الحياة الباردة والشهرة الطاغية في حياة هؤلاء السذج الجهلاء، لقد غابت من مجتمعاتنا العربية تلك الأمنية القديمة والقيّمة والتي كان يتمناها كل صبي: أن يكون مثل «خالد بن الوليد». اليوم يتمنى الكثير أن يكون أي شيء غير أن يكون مثل ابن الوليد!