أحياناً حين ننعى شخصاً قدم دوراً مهماً وريادياً في مهنته، وخدم وطنه ومجتمعه طوال حياته المديدة، ولم يتبرأ من ناسه وعروبته، فإننا ننعى الأخلاق التي تذهب معه، والقيم التي كان يحملها، وزخم المعارف التي استقرت في رأسه، وذلك الوعي الكبير والعميق بدور الوطن، ومعنى الانتماء، وصدق الوطنية لا المواطنة، ومعنى الإنسانية، وشرف المهنة وسمو المبادئ، فكيف إذا كان المَنعي واحداً بقامة «محمد ناصر السنعوسي»؟! حينها ننعى أنفسنا قبله، لأن شخصاً مثله، قلما يتكرر في وقت ساده الجدب، وترفعت الأخلاق من الأرض، وأصبحت مهنة الإعلام مستباحة بالكذب والكذابين والمدّاحين، وطغى الغث على السمين، ونامت النواطير عن ثعالبها! «محمد السنعوسي»، قبل أن يكون إعلامياً محترماً، كان وطنياً واعياً، وعروبياً آمن بفضل هذه الحضارة التي قامت على أكتاف ذلك العربي، نقي السريرة، بسيط الملبس والمأكل، لكنه يتدثر بأخلاق الرسالة المحمدية، وساهم في نشر الرسالة الإنسانية الخالدة، هذا الإنسان العربي يستطيع عمل الكثير إن قرر وأراد.
يكفينا في عُجالة الوقت أن نُذَكّر من لا يعرف، ولا يتيقن ولا يدّكر، بأن «السنعوسي» كان في وقته تلفزيون الكويت شعاعاً معرفياً، وثقافياً وفنياً، حفظ الكثير لنا، ووثق الكثير لنا، ولولاه لغابت أغاني ناظم الغزالي، ولولاه لما حفظت أغان نادرة لعبد الحليم حافظ، ولولاه لما كانت الإذاعة الشعبية الكويتية تدون النهمات وأغاني البحر، وأصواتاً عانقت البحر وموجه، وكان يمكن أن تدفن بلحظة، ويدفن معها ما حفظت الصدور، كان التلفزيون الكويتي يبث المسرحيات الجميلة والتمثيليات السباعية والمسلسلات والأوبريتات، وتصوير الأغاني الكويتية والعربية في العموم في استوديوهاته بالأبيض والأسود ثم الملون، واليوم.. هو أرشيف ضخم لمفاصل حياتية وتاريخية في المنطقة العربية.
«السنعوسي» له فضل على فيلم «الرسالة» التاريخي، كأعظم إنتاج عربي خدم العرب والمسلمين، وحاول محو شخصياتهم النمطية من أذهان الغرب والعالم المتأثر بالدعاية الأميركية، له الفضل في تكرار تجربة المخرج «مصطفى العقاد» في فيلمه الآخر «عمر المختار»، ومحاولة تقديم الشخصية العربية بالطريقة التي يستحقها في وسائل الإعلام المؤثرة، وخاصة الفن السابع، السينما. «السنعوسي» له أفضال على معظم الفنانين والإعلاميين والمثقفين وحتى السياسيين الكويتيين والعرب في مرحلة من مراحل حياته، وله كثير الأفضال على الأجيال الجديدة التي رعاها وحضنها في بداياتها، فكان الموجه والمرشد والمعين والأستاذ.
لم تهمه الوزارة، أي وزارة الإعلام، بقدر ما همّه التلفزيون والإذاعة وإدارة شؤونهما، لم يهمّه العمل السياسي بقدر ما همّه العمل والنشاط الثقافي والعمل الوطني، لم تهمّه المناصب بقدر ما كان يهمه ذلك البرنامج الجماهيري وتواصله مع الناس وحل مشكلاتهم البسيطة، كان في كثير من الأوقات يقف خلف الكواليس من أجل إنجاح برنامج أو مشروع أو عمل فني، يكفي أن نقول لكم: إن الإنتاج التلفزيوني الجميل والهادف والمشترك، والذي لن يتكرر «افتح يا سمسم»، لا بد وأن تقف خلفه شخصية جميلة وإعلامية متجذرة، ووطنية واعية مثل «السنعوسي».
ومآثره باقية ودائمة.
لأبي «طارق، وزياد» الرحمة والسكينة والهدوء الأبدي، وجزيل الشكر والعرفان لما قدم وتعب وخدم وأخلص لوطنه، وخليجه، وعروبته، وللإنسانية في عمومها التي كانت في مصب اهتمامه، وشاغل تفكيره، ومتسع توجهاته.
«محمد ناصر السنعوسي» ستفتقدك الكويت، وتفتقدك بلدان الوطن العربي التي أحببتها وأحبتك، وسيفتقدك الإعلام الحر والصادق، وستفتقدك الثقافة في عمومها وإنسانيتها، ولا عزاء لأصدقائك الخُلص في كل جهات الدنيا الأربع.