ما قلته وقاله غيري، من أن كأس أمم أفريقيا غريبة ومعقدة، بل ومتوحشة، بالمعنى الذي تفترسك فيه المفاجآت، ولا نكاد نجد لغرابتها شبيهاً في البطولات القارية الأخرى، عبرت عنه النسخة المنتهية الأحد الماضي، النسخة التي منحت فيلة كوت ديفوار لقبهم الأفريقي الثالث، الأول لهم في عرينهم وبين جماهيرهم.
وكان البطل الإيفواري، مساراً وقدراً، مختزل هذا التعقيد الذي عُرفت به كأس أمم أفريقيا، تعقيد قادنا من الإثارة إلى الجنون.
عطفاً على لقبيه اللذين تحصل عليهما في نسختي 1992 و2015، واحتكاماً لكونه يستضيف النسخة الرابعة والثلاثين للبطولة، وبالنظر لما يملكه في ترسانته البشرية من لاعبين متميزين، فقد وضعت تحاليل واستقراءات الخبراء منتخب كوت ديفوار في خانة المرشحين بقوة للمنافسة على اللقب، برغم أن الأرض في هذا الكوكب الكروي الغريب لم تقدم الولاء لأصحاب الضيافة، منذ 2006، السنة التي كتب فيها منتخب مصر أول سطر في ثلاثيته الرائعة مع الأسطورة حسن شحاتة.
وبعد دخول متوقع، بل ومريح للمنتخب الإيفواري لأجواء المسابقة، وهو يفوز في مباراته الافتتاحية على منتخب غينيا بيساو، يسقط الفيلة أمام نسور نيجيريا بهدف في «كلاسيكو» خيّب آمال أبناء العاج، وبعدها تتغمم سماء أبيدجان، والفيلة يُرْمون من أعلى قمة، وهم يخسرون بالأربعة أمام منتخب غينيا الاستوائية.
هزيمة نهج وسلوك وتدبير، تصيب الإيفواريين بحزن عميق، لأن الهزيمة بهذه الحصة تركت المنتخب الإيفواري معلقاً بين مقصلة الإقصاء، وبين هدية يمكن أن تأتي أو لا تأتي، ليتأهل المنتخب المضيف ضمن أفضل الثوالث. على الفور، أقال الاتحاد الإيفواري مدربه الفرنسي، ونصب بدلاً منه مساعده الإيفواري إيميرس فايي، وأطال الإيفواريون الجلوس في بهو الانتظار، بين الرجاء واليأس، إلى أن أهداهم المنتخب المغربي بطاقة «السعد»، وهو يفوز على المنتخب الزامبي. وما نشاهده في دور خروج المغلوب، شيء فاق الخيال، تقف الفيلة على أرجلها ثانية، لترسل في سماء البطولة شهباً مثيرة للإعجاب، يسقطون أسود السنغال، ثم يتبعونها بنسور مالي الجارحة، وفي الدور نصف النهائي، يروّضون فهود الكونغو الديمقراطية، وعندما عاودوا اللقاء بمنتخب نيجيريا في الفاصل الختامي، سحبونا جميعاً إلى مدن الدهشة، بالأداء الخرافي الذي قادهم إلى الفوز على نيجيريا، ليصبحوا أبطالاً، وهم الخارجون في دور المجموعات من الموت السريري.
كثيرة هي الدروس التي أعطتنا إياها هذه النسخة الجميلة لكأس أمم أفريقيا، دروس في صورة حقائق، منها أن من يبلغ المجد، لابد وأن ينزل إلى الدرك الأسفل، ليتذوق حلاوة الصعود ومذاق التحدي، وأن الشجاعة هي السلاح لقهر المستحيل، وأن في كرة القدم التي نقول عنها إنها ظالمة، شيئاً من العدالة، التي جعلت من كوت ديفوار بطلاً لأجمل نسخة من بطولة العجائب.