في مكة المشرفة قطوف من خمائل من الوحي، أوقعت القلب في هدى السلام والفرحة والرهبة والخشوع، ترى أفئدة الناس ناظرة إلى الكعبة، فتنسى الدنيا وثقلها، وترى المقل في دموعها، والألسنة تلهج أمام باب الريان، والعيون شاخصة النظر إلى السماء من فرط التعبد.
جاءت جموع البشر يلهمها الإيمان ملبية طائعة، مناجية ربها، لا تتوانى ولا تخلف وعداً، ولا تتوقف لحظة عن الدعاء المبارك، فكل اللحظات مليئة بالروحانية، فاظفر بما شئت من الوقت قبيل وداع المكان الطاهر، لحظات تشفق عليك من البعد، وكيف تعيش الحياة في بعدك عن الكعبة المشرفة، إنك هنا. لا تود البعد ولا الوداع، والناس حولك تزداد أعداداً غفيرة، لكنك لا تشعر بمن حولك، وكأنك تحلق وحدك في كوكب آخر يتلألأ بالنور، وتسري في شرايين القلب طمأنينة، ويخفق سعادة وصفاءً، وحول الكعبة المشرفة تطوف الأرواح مطمئنة مبتهجة.
هنا تزهر القلوب، ويكبر في رياحينها الوداد، لا عتب ولا عتاب، فقط طواف وهمس ودعاء، ورغبة افتكاك من بلاء وذنوب، هنا اكتمال وقرب مودة واحتساب الأجر، وشوق ورجاء أن يظفر الإنسان بالتقوى والغفران من ذنوب يغفرها الرحمن الرحيم، جل جلاله، حتى وإنْ ثقلت.
حين تطأ قدمك الأرض المقدسة، وتبدأ الخطوات الأولى يضيء في قلبك التاريخ وفصوله المباركة.
الطواف هو الحب بكل انتمائه وقدسيته، وأنت أمام البيت العتيق تلهج بالدعاء، الكل قادم بمحبة تملأ الروح لهذا المكان الطاهر، والكل يفصح عن أمنياته بالدعاء، وبالتوهج النفسي والروحي، وكل منا يتذكر كيف بدأت من هنا قيم العدالة والرحمة والمساواة يوم جاء الإسلام فأضاء الأرض والروح والزمن، فإذا الناس في طمأنينة وأخوّة وسلام.