كانت من أمنيات السفر من زمن بعيد التعرف عن كثب على تلك المدن الإسلامية التي كانت تظهر في كتب التاريخ والتراث، مرات باسمها الصريح مثل «خوارزم وترمذ وبخارى وسمرقند ونساي»، وإليها ينتسب الكثير من العلماء والفلاسفة والمحدثين، مثل: الخوارزمي والترمذي والبخاري والنسائي، ومرات تعرف ببلاد ما وراء النهر، كما أسماها العرب الفاتحون، وهي ترجمة عن الفارسية «فرا رود» أو بلاد ما بين النهرين «سيحون 2212 كم، وجيحون 1415 كم».

تلك المدن في زمنها القديم كانت من الأمنيات التي تستعصي علينا لعدم مقدرتنا على الوصول إليها، سواء لأسباب تخصهم، وتخص انغلاقهم الحديدي المطبق عليهم أو لعدم اتصالنا بهم، بسبب تلك القطيعة التاريخية التي خلقتها الأنظمة المتعاقبة علينا كعرب ومسلمين، وعليهم من قبل الاتحاد السوفييتي ومعسكره الشرقي الصارم.

لذا بقيت لذة السفر إلى جمهوريات آسيا الوسطى أو الجمهوريات الإسلامية في عهد الاتحاد السوفييتي السابق، أو كما يعرفون عند الماركسيين من باب الغيرة الأيديولوجية بـ «الرفاق المؤمنين»، تعنّ على عاشق السفر والتاريخ والملتصق بالإرث الحضاري العربي والإسلامي، لأنها مدن جميلة في العهدين، السابق كانت جميلة ورخيصة، وخدمات ورفاهية معدومة، والبساطة تسيّر الناس، أما الوقت الحالي، فهي ما زالت جميلة، لكنها غالية، وخدمات موجودة، لكنها بكسل، وببطء، وضمن بيروقراطية يصعب أن تفارقهم، والناس تغيروا في بعض هذه المدن، وقد تغادرهم تلك البساطة والطيبة التي تحلّوا بها زمناً طويلاً.

أيامها كنا ندخلها بورقة منفصلة عن الجواز، لأن ختمهم «الأحمر» كان ثقيلاً على أوراقنا، وثمة تهم جاهزة يمكن أن تلقى عليك بسبب تلك الزيارة المقطوعة، كما لن تخلو من تهم أخرى يمكن أن تلصق بك من جانب طرفهم، لأن نظرتهم للغريب تعني تهمة واحدة لا غيرها، وهي التجسس، واليوم ندخل معظمها بلا طلب سمة دخول، ولا كل التعقيدات الأولية مثل أن تكون لديك دعوة رسمية، لأنك في نظرهم أجنبي، ويمكن التخابر معك، ليس خوفاً منك، ولكن خوفاً على مواطن الجمهوريات السوفييتية، اليوم «الأزرق» بفضل جهود رجال نبلاء أخذوا على عاتقهم جعل الجواز الإماراتي في مقدمة الصفوف الأولى، وأعني هنا، تلك الجهود الدبلوماسية، ومنظومة أشياء كثيرة تتميز بها الإمارات من دون غيرها، غير مستبعدين تلك القوى الناعمة، وعلى رأسها فن دبلوماسية الثقافة أو الثقافة الدبلوماسية.

لا أخفي إعجابي بتلك البلدان التي تستند إلى ثقافة عميقة ومتعددة، وإرث إنساني ضخم، قد نكون بعيدين عنها جغرافياً، لكن ارتباط التاريخ يجعلنا أقرب، فثمة عوامل كثيرة مشتركة حتى حروب الحضارات تركت هامشاً جميلاً للتلاقح والتعايش من خلال اللغة والتجارة وأنواع المعرفة.

اليوم.. الزائر لكازاخستان، مثلاً، تبهره البلد باتساعها الكبير الذي يهضم مساحة كبيرة من آسيا، وتبهره النهضة المتكاملة خاصة في مجال العلوم والفنون والثقافة، سواء كنت في عاصمتها التاريخية «المآتا» أو عاصمتها الثقافية «تركستان» أو عاصمتها الإدارية «الآستانه»، والتي تعني بالتركية عتبة السلطان أو عاصمة الحكم، والتي تغيرت في 20 مارس 2019 وسميت «نور سلطان» تيمناً بمؤسس كازاخستان الجديدة، الرئيس «نور سلطان نزارباييف» الذي استقال بعد حكم للبلاد دام ثلاثين عاماً، حل محله مؤقتاً لحين الانتخابات في 2020 رئيس مجلس الشيوخ «قاسم توكاييف»، والذي أصبح رئيساً بعدها، الآستانة عاد لها اسمها القديم من جديد، وهي مدينة حديثة بكل معنى الكلمة في تخطيطها أو عمارتها الجميلة والمختلفة في مرافقها الإدارية والفنية والثقافية، يكفي أن هناك عمارة أو مجموعة عمارات متلاصقة بطول خمسة كيلومترات، تجمع كل الوزارات والدوائر الحكومية، وقد أتيت المدينة مرة، وكانت درجة الحرارة فيها خمساً وثلاثين درجة تحت الصفر، وأتيتها صيفاً وكانت درجة الحرارة فوق الأربعين.. وغداً نكمل